على كل طالب علم أن يحفظه ويعيه قلبه، وأن يضعه نصب عينيه، حتى لا يكون من
علماء الضلالة.
قَالَ الإمام مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجري:
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَصِفْ لَنَا أَخْلَاقَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ
الَّذِينَ عِلْمُهُمْ حُجَّهٌ عَلَيْهِمْ , حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا مَنْ يُشَارُ
إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ اعْتَبَرْنَا مَا ظَهَرَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ , فَإِذَا رَأَيْنَا
أَخْلَاقًا لَا تَحْسُنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ اجْتَنَبْنَاهُمْ , وَعَلِمْنَا أَنَّ
مَا اسْتَبْطَنُوهُ مِنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ أَقْبَحُ مِمَّا ظَهْرَ ,
وَعَلِمْنَا أَنَّهُ فِتْنَةٌ فَاجْتَنَبْنَاهُمْ , لِئَلَّا نُفْتَتَنَ كَمَا
افْتُتِنُوا , وَاللَّهُ مُوَفِّقُنَا لِلرَّشَادِ.
قِيلَ لَهُ: نَعَمْ , سَنَذْكُرُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَا إِذَا سَمِعَهَا مَنْ
يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ , فَتَصَفَّحَ أَمْرَهُ , فَإِنْ
كَانَ فِيهِ خُلُقٌ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَكْرُوَهَةِ الْمَذْمُومَةِ
اسْتَغْفَرَ اللَّهَ , وَأَسْرَعَ الرَّجْعَةَ عَنْهَا إِلَى أَخْلَاقٍ هِيَ
أَوْلَى بِالْعِلْمِ , مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ,
وَتَجَافَى عَنِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُبَاعِدُهُمْ عَنِ اللَّهِ.
فَمِنْ صِفَتِهِ فِي طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ: يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِالسَّهْوِ
وَالْغَفْلَةِ.
وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنَ الْعِلْمِ مَا أَسْرَعَ إِلَيْهِ هَوَاهُ.
فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ؟
قُلْتُ: لَيْسَ مُرَادُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ
لِيَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيمَا يَعْبُدُهُ مِنْ أَدَاءِ
فَرَائِضِهِ , وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
إِنَّمَا مُرَادُهُ فِي طَلَبِهِ أَنْ يُكْثِرَ التَّعَرُّفَ أَنَّهُ مِنْ
طُلَّابِ الْعِلْمِ , وَلِيَكُونَ عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ هَذَّبَ
نَفْسَهُ , وَكُلُّ عِلْمٍ إِذَا سَمِعَهُ أَوْ حَفِظَهُ شَرُفَ بِهِ عِنْدَ
الْمَخْلُوقِينَ , سَارَعَ إِلَيْهِ , وَخَفَّ فِي طَلَبِه.
وَكُلُّ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يَعْلَمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ , ثَقُلَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ , فَتَرَكَهُ
عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ , مَعَ شِدَّةِ فَقْرِهِ إِلَيْهِ.
يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفُوتَهُ سَمَاعٌ لِعِلْمٍ قَدْ أَرَادَهُ ,
حَتَّى يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي سَمَاعِهِ , فَإِذَا سَمِعَهُ هَانَ
عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ , فَلَمْ يُلْزِمْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ
الْعَمَلِ بِهِ , كَمَا أَلْزَمَهَا السَّمَاعَ فَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ إِنْ
فَاتَهُ سَمَاعُ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ , أَحْزَنَهُ ذَلِكَ , وَأَسِفَ عَلَى
فَوْتِهِ , كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ مِنْهُ.
وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى عِلْمٍ قَدْ سَمِعَهُ ,
فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ , فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , ذَلِكَ كَانَ
أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِ وَيَتَأَسَّفَ.
يَتَفَقَّهُ
لِلرِّيَاءِ ,
وَيُحَاجُّ لِلْمِرَاءِ , مُنَاظَرَتُهُ فِي الْعِلْمِ تُكْسِبُهُ الْمَأْثَمَ ,
مُرَادُهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ أَنْ يُعْرَفَ بِالْبَلَاغَةِ , وَمُرَادُهُ أَنْ
يُخَطِّئَ مُنَاظِرَهُ , إِنْ أَصَابَ مُنَاظِرُهُ الْحَقَّ أَسَاءَهُ ذَلِكَ.
فَهُوَ دَائِبٌ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ الشَّيْطَانَ , وَيَكْرَهُ مَا
يُحِبُّ الرَّحْمَنُ , يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ لَا يُنْصِفُ فِي الْمُنَاظَرَةِ ,
وَهُوَ يَجُورُ فِي الْمُحَاجَّةِ , يَحْتَجُّ عَلَى خَطَئِهِ , وَهُوَ يَعْرِفُهُ
, وَلَا يُقِرُّ بِهِ , خَوْفًا أَنْ يُذَمَّ عَلَى خَطَئِهِ , يُرَخِّصُ فِي
الْفَتْوَى لِمَنْ أَحَبَّ , وَيُشَدِّدُ عَلَى مَنْ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ ,
يَذُمُّ بَعْضَ الرَّأْيِ , فَإِنِ احْتَاجَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا لِمَنْ
أَحَبَّ دَلَّهُ عَلَيْهِ , وَعَمِلَ بِهِ , مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا ,
فَهِمَّتُهُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا , فَإِنْ عَادَ عَلَيْهِ خَفَّ عَلَيْهِ
تَعْلِيمُهُ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ لِلدُّنْيَا وَإِنَّمَا
مَنْفَعَتُهُ الْآخِرَةُ ثَقُلَ عَلَيْهِ.
يَرْجُو ثَوَابَ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ , وَلَا يَخَافُ سُوءَ
عَاقِبَةِ الْمُسَاءَلَةِ عَنْ تَخَلُّفِ الْعَمَلِ بِهِ , يَرْجُو ثَوَابَ
اللَّهِ عَلَى بُغْضِهِ مَنْ ظَنِّ بِهِ السُّوءَ مِنَ الْمَسْتُورِينَ , وَلَا
يَخَافُ مَقْتَ اللَّهِ عَلَى مُدَاهَنَتِهِ لِلْمَهْتُوكِينَ.
يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ , فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا , وَلَا
يَخَافُ عَظِيمَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ اسْتِعْمَالَهَا , إِنْ عَلِمَ
ازْدَادَ مُبَاهَاةً وَتَصَنُّعًا , وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمٍ
تَرَكَهُ أَنَفًا.
إِنْ كَثُرَ الْعُلَمَاءُ فِي عَصْرِهِ فَذُكِرُوا بِالْعِلْمِ أَحَبَّ
أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُمْ.
إِنْ سُئِلَ الْعُلَمَاءُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُسْأَلْ هُوَ , أَحَبَّ
أَنْ يُسْأَلَ كَمَا سُئِلَ غَيْرُهُ , وَكَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْمَدَ
رَبَّهُ إِذْ لَمْ يُسْأَلْ , وَإِذْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ كَفَاهُ.
إِنْ بَلَغَهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَخْطَأَ , وَأَصَابَ هُوَ
, فَرِحَ بِخَطَأِ غَيْرِهِ , وَكَانَ حُكْمُهُ أَنْ يَسُوءَهُ ذَلِكَ.
إِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ سَرَّهُ مَوْتُهُ , لِيَحْتَاجَ
النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ , إِنْ سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنِفَ أَنْ يَقُولَ:
لَا أَعْلَمُ , حَتَّى يَتَكَلَّفَ مَالَا يَسَعُهُ فِي الْجَوَابِ , إِنْ عَلِمَ
أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ كَرِهَ حَيَاتَهُ , وَلَمْ
يُرْشِدِ النَّاسَ إِلَيْهِ , إِنْ عَلِمَ
أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَتُوبِعَ عَلَيْهِ , وَصَارَتْ لَهُ بِهِ رُتْبَةٌ عِنْدَ
مَنْ جَهِلَهُ , ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَنِفَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ
خَطَئِهِ , فَيَثْبُتُ بِنَصْرِ الْخَطَأِ , لِئَلَّا تَسْقُطَ رُتْبَتُهُ عِنْدَ
الْمَخْلُوقِينَ.
يَتَوَاضَعُ بِعِلْمِهِ لِلْمُلُوكِ , وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا , لِيَنَالَ
حَظَّهُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ يُقِيمُهُ , وَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ لَا دُنْيَا
لَهُ مِنَ الْمَسْتُورِينَ وَالْفُقَرَاءِ , فَيَحْرِمُهُمْ عِلْمَهُ بِتَأْوِيلٍ
يُقِيمُهُ.
يَعُدُّ نَفْسَهُ فِي الْعُلَمَاءِ , وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ
السُّفَهَاءِ، قَدْ فَتَنَهُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالثَّنَاءِ وَالشَّرَفِ
وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا , يَتَجَمَّلُ بِالْعِلْمِ كَمَا
تَتَجَمَّلُ بِالْحُلَّةِ الْحَسْنَاءُ لِلدُّنْيَا , وَلَا يُجَمِّلُ عِلْمَهُ
بِالْعَمَلِ بِهِ.
أخلاق العلماء (ص95)