قال العمريطي:
وَحَدُّه
استِدعَاء فِعْلٍ وَاجِبِ *** بِالقَـولِ مِمَّنْ كَانَ دُونَ الطَّالِبِ
الأمر لغة: مطلق الطلب، وهو مصدر أمَرَ يَأمُر أمْرًا،
فهو آمرٌ، والمفعول مَأْمورٌ.
واصطلاحا، قال الناظم: استدعاء فعل واجب بالقول ممن كان دون
الطالب.
وقال الجويني في الورقات: الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو
دونه على سبيل الوجوب، والصفة الدالة عليه افعل.
قلت
هذا التعريف فيه نظر: أولا: قوله استدعاء، وقول بعضهم
كالسبكي: اقتضاء كل هذه أشعرية متسترة، لأن الأمر ليس هو استدعاء الفعل، بل
هو عين اللفظ، لأنهم يفرقون بين الأمر ولفظه، ويقولون اللفظ دال على الأمر، وليس
هو عينه، وأهل السنة والجماعة يقولون: بل الأمر هو عين اللفظ، وكلام الله بصوت
وحرف.
أما
الأشاعرة فيقولون:
إن الأمر من الكلام، والكلام نفسي، واللفظ دال عليه وليس هو الكلام، فهذا الحد
الذي حد الناظم به الأمر ومن قبله الجويني وغيرهما هو حد للأمر النفسي القائم
بالذات المجردة عن الحرف والصوت، لذلك قالوا بخلق القرآن بخبث ومكر، حيث يزعمون أن
كلام الله معنى قائم بالنفس المجردة عن الألفاظ والحروف والأوامر والنواهي، فتنبه
!!.
والقول
بالكلام النفسي باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف.
فمن
القرآن:
قوله
تعالي " وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ
يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ " التوبة (6)، فمن زعم أن ما يُسمع ليس كلام الله
فهو كافر بإجماع السلف، ومن لم يكفره كافر.
وقول
مريم " إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنسِيًّا " مريم (26)، ثم قال جل وعلا بعدها "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ"،
والإشارة معبرة عما في النفس، ولو كان ما في النفس كلاما لكانت الإشارة تدل عليه
كصيغة الأمر عندهم !!، ولم يكن من امتناع مريم عن الكلام فائدة.
ومثله
قول الله جل وعلا على لسان زكريا عليه الصلاة والسلام " قَالَ رَبِّ اجْعَل
لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا
" مريم
(10)،
دل ذلك على عدم جواز الكلام في حقه ثم قال " فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
"، فقد أوحي إليهم، ولم يكن هذا الذي عبر عنه بالإشارة كلاما، والقول أو
الكلام إذا أطلقا في الشرع لا بد أن يكونا بحرف وصوت خلافا لأهل البدعة من
الأشاعرة والمتكلمين ومن لف لفهم.
أما
إذا أريد به ما في النفس فلا بد من التقييد، كقوله تعالي " وَيَقُولُونَ فِي
أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ " المجادلة (8)،
وهذا أكبر رد عليهم، لأنه لو كان الأصل في إطلاق هو ما في النفس فما هو الداعي من
التقييد.
ومن
السنة أحاديث لا تحصي في هذا المقام، منها قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه
البخاري وغيره" أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ " وبالإجماع من
لم يقل لا إله إلا الله ولم يتلفظ بها وهو قادر على النطق فلم يقلها لا يسمي
قائلا، وليس بمؤمن، ولو قالها في نفسه لا يسمى قولا بالإجماع، بل من قال بخلاف ذلك
فهو جهمي ضال، وهذا لازم هذا القول الباطل.
وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه
البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ
عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ"،
فجعل الكلام لا يكون إلا باللفظ، وما في النفس لا يسمى كلاما.
وكذلك
قد انعقد الإجماع على أن الأمر والنهي من الكلام، والكلام لا بد أن يكون بألفاظ
وحروف تدل على المعانى، والكلام إما اسم، أو فعل، أو حرف، باتفاق النحاة وأهل
اللغة.
قال
العلامة الأمين في المذكرة (ص182):
وأجمع الفقهاء على أن: من حلف أن لا
يتكلم لا يحنث بحديث النفس، وإنما يحنث بالكلام.اهـ
قلت:
وكذلك
أجمع العقلاء لا أهل السفه على أن: الساكت والأخرس لا يسمي كل منهما متكلما، مع أن
كل منهما يحدث نفسه !!.
وإبطال
هذا القول معلوم لكل عاقل، وبطلانه يغنى عن إبطاله، وما قال هؤلاء الضلال المبتدعة
بهذا القول إلا لقولهم بخلق القرآن، وأن الله لم يتكلم بالقرآن كلاما حقيقيا سمعه
جبريل بحرف وصوت.
وقوله:
(فعل واجب):
هذا الاشتراط غير صحيح، لأن الأمر قد يشمل الواجب والمندوب كما سبق بيانه.
وقوله:
استدعاء بالقول:
خرج به الاستدعاء بالفعل، لأن الأصل في إطلاق الأمر هو القول المخصوص وما عداه
مجاز، هكذا يقول بعضهم !!.
وعلى
ذلك يقول بعضهم:
إن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك: (أسلم تسلم) ليست أوامر حقيقية،
وإنما هي مجاز !!، لأنها ليست بقول، وهذا فاسد، والصحيح أن الأمر الشرعي أعم من
ذلك، فيشمل القول، والكتابة، والإشارة، وعقد الأصابع.
ويكون
الأمر إذا أطلق من المشترك اللفظي، إما بالقول، وإما بغيره.
وقوله:
(ممن كان دون الطالب): يريد أن يخرج ما لو كان الأمر من مساوٍ فحينئذ يكون للالتماس.
ويخرج
به كذلك:
ما لو كان الأمر من الأدني لمن هو أعلي، فحينئذ يكون للدعاء.
وسوف
يأتي معنا الرد على التقسيم.
والأحسن
من عبارة الناظم:
قول بعضهم (على وجه الاستعلاء)، لأن الأدنى قد يأمر الأعلى.
والصواب: أن الأمر هو ما دل على طلب الفعل
مطلقا، وهذا التقسيم لا يُعْرَفُ في لسان العرب، فمتى كان الأمر بصيغته المعروفة
فهو أمر في اللغة، سواء كان من أدنى أو من مساوٍ أو من أعلي.
وعلى
ذلك:
كل من حد الامر بالاستدعاء كالجويني، والناظم، أو قال: اقتضاء كالسبكي في جمع
الجوامع إنما أراد به الأمر النفسي، والصحيح أن نصدر حد الأمر باللفظ حتى يزول أي
وهم.
وقول
الناظم:
استدعاء فعل لم يخرج به النهي، لأن الترك فعل، وقد سبق بيان ذلك.
وقد
أخرجه السبكي بقوله في جمع الجوامع (ص40): وحده: اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيرِ
كَفِّ، مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ كُفَّ.اهـ
فقوله:
(غير كفِّ):
خرج به النهى، لأنه طلب فعل كف، ويكون بصيغة لا تفعل، وهي الكف عن الفعل.
وحتى
لا يقال استدراكا عليه: ليس كل طلب كفٍّ يكون نهيا، لأن طلب الكف قد يكون بصيغة افعل ومع
ذلك يكون نهيا، زاد عليه: مدلول عليه بغير كفَّ.
لأنك
لو قلت لابنك:
اكفف نفسك عن الربا لكان أمرًا وليس نهيا، وكذلك لو قلت: اترك الكذب يا بني لم يكن
نهيا، لكن معناه النهي، والكلام ههنا في حد الأمر، فلا بد إذن من قيد، وهو: (مدلول
عليه بغير كفَّ)، ونحو الكف (ذَرْ، وخَلِّ، واتْرُكْ) وما في معناها، فكلها أفعال
أمر تدل على الترك، وهى في اللفظ أوامر تلحق به وتسمي أفعال أمر لا نهي، وفى
المدلول والمعاني ملحقة بالنهي.
إذن
طلب الكفِّ نوعان:
1 – مطلق الكف، وهذا يشمل الأمر والنهي.
2 – طلب كفِّ خاص، وهذا يشمل النهي فقط،
إن كان بصيغة لا تفعل، وإن كان بصيغة افعل فهو أمر.
فعلى
ذلك الأمر نوعان:
1 – طلب إيجاد للمطلوب، نحو (قم، وافعل،
وصل).
2 – طلب ترك بصيغة افعل، نحو (كفَّ،
اتْرُكْ، ذَرْ، خَلِّ، ودَعْ).
إذن
بناء على ما سبق من تعليلات وانتقادات فنقول في حد الأمر: هو اللَّفْظُ الدَالُّ عَلَى طَلَبِ
فِعْلٍ غَيرِ كَفِّ، مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ كُفَّ.
أو
نستبدل قول (اللفظ) (بما) الموصولية، لتشمل (ما) اللفظ والكتابة والإشارة والعقد.
فنقول:
الأمر
هو ما دَلَّ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ غَيرِ كَفِّ، مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ كُفَّ.
هذا
أجمع وأحسن.
فقولنا:
(ما دَلَّ عَلَى طَلَبِ): يشمل اللفظ والكتابة والإشارة وعقد الأصابع، فكل ما دل على الطلب
يدخل في حد الأمر شرعا.
وقولنا:
(طَلَبِ فِعْلٍ):
خرج به ما لا يدل على طلب الفعل كالتمني والاستفهام.
وقولنا:
(غَيرِ كَفِّ):
خرج به النهي.
وقولنا:
(مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ كُفَّ): ليدخل طلب الكف المدلول عليه بهذه
الألفاظ، فهي أوامر لا نواهي، نحو (اُكْفُفْ، وكُفَّ، واتْرُكْ، وذَرْ، وخَلِّ)،
كما في قوله تعالي " وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ " الجمعة (9).
ولم
نقل: (على جهة العلو) كما قالت جماهير المعتزلة، وبعض الأصوليين، كأبي إسحاق الشيرازي، وابن
الصباغ، وغيرهم، لأن الآمر عندهم لا بد أن يكون أعلى رتبة من المأمور، كالخالق
للمخلوق، والزوج لزوجته، والأب لأولاده، وولي الأمر للرعية.
أما
جماهير الأصوليين فيشترطون: أن يكون الأمر (على جهة الاستعلاء)، فيكون الأمر قد صدر بقهر
وكبرياء، والفرق بين العلو والاستعلاء، أن العلو صفة للمتكلم، والاستعلاء صفة للكلام
نفسه.
وثَمَّ
قول ثالث: وهو
اشتراطهما معا، العلو والاستعلاء، وبه قال القشيري وعبد الوهاب المالكي.
والقول
الرابع: عدم
اشتراطهما، لا العلو ولا الاستعلاء، وهو قول أغلب المتأخرين، وهو الصحيح، لأنه لا
يُعْرَفُ في لسان العرب هذا الشرط، والمشهور عندهم أن صيغة افعل يراد بها الدلالة
على الطلب مطلقا دون النظر لمراعاة علو ولا استعلاء.
دليل
ذلك: قوله
تعالي حكاية عن فرعون للسحرة " فَمَاذَا تَأْمُرُونَ " الشعراء (35)، ولم يقل فماذا تلتمسون أو تطلبون،
ومعلوم أن الأمر لم يكن ممن هو أعلى رتبة من فرعون.
وكذلك
قال تعالي حكاية عن إبليس " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم
بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ " البقرة
(268)،
ومعلوم ان إبليس أقل رتبة من بنى آدم ويأمرهم، هذا بخلاف أن كثيرا من الأوامر
الشرعية ليس فيها استعلاء، بل فيها ترغيب، كقوله تعالي " وَسَارِعُوا إِلَىٰ
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ " آل عمران (133).
وقد
أشار صاحب المراقي إليها باختصار، فقال:
وليس
عند جل الاذكياء *** شرط علو فيه واستعلاء
وخالف
الباجي بشرط التالي *** وشرط ذاك رأي ذي اعتزال
واعتُبرا
معا على توهين *** لدى القشيريِّ وذي التلقين
قال
العمريطي رحمه الله: (بِصِيغَةِ افْعَلْ فَالوُجُوبُ حُقِّقَا
*** حَيثُ القَرِينَةُ انتَفَتْ وَأُطْلِقَا)
قوله: بِصِيغَةِ:
جار ومجرور متعلق بقوله (حُقِّقَا)، وصيغة: مضاف.
افْعَلْ:
مضاف إليه قصد لفظه.
فَالوُجُوبُ:
الفاء: للترتيب، الوجوب: مبتدأ.
حُقِّقَا:
فعل ماض مغير الصيغة، مبني على الفتح الظاهر، ونائب فاعله مستتر تقديره هو، والألف
للإطلاق، والجملة من الفعل ونائبه في محل رفع خبر المبتدإ.
حَيثُ:
ظرف مكان مبني على الضم، وهو للتقييد.
القَرِينَةُ:
مبتدأ.
انتَفَتْ:
فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدإ، وتاء التأنيث الساكنة حرف لا محل لها.
وَأُطْلِقَا:
معطوف على قوله القرينة، وهذا من باب عطف بعض الشيء على الشيء، لأنه أطلق الأمر
منتفيا عن القرينة ثم عطف الإطلاق على الانتفاء، وهما بمعنى واحد، فمتى انتفت
القرينة أو أطلق الأمر فهو للوجوب هذا المراد.
والجملة من المبتدإ وخبره وما عطف عليه
في محل جر مضاف إليه بإضافة حيث إليها.
والمعنى:
يتحقق الوجوب بصيغة افعل إذا تجردت صيغة افعل عن القرينة التي تصرفه إلى غير
الوجوب.
إطلاقات الأمر:
الأمر
له إطلاقات، فتارة يقصد به القول المخصوص وهذا الأصل فيه والغالب، ويطلق ويراد به
مطلق الفعل، نحو قوله تعالي "وشاورهم في الأمر" أي في الفعل.
ويطلق
ويراد به الشأن، نحو قوله تعالي "وما أمر فرعون برشيد)، أي شأن فرعون.
ويطلق
ويراد به الصفة، نحو قول الشاعر " لأمر ما يسود من يسود" أي لصفة
ما، وله إطلاقات غير تلك الإطلاقات التي ذكرتها.
وقوله: (بصيغة افعل):
يحتمل أن يكون الناظم ممن يقولون بأن الأمر له صيغة في مقابلة من يقول ليس له
صيغة، ويحتمل أن لا يقول بذلك، وعلى كلٍ فهذه المسألة يشغب بها الأشاعرة ومن لفهم
على أهل السنة، فتجدهم يقولون: هل للأمر صيغة تخصه أم لا ؟
والجواب:
أن هذا السؤال مبتدع أصلا.
فليس بوارد هذا السؤال على من يقول
بقول السلف: إن الكلام لفظ، واللفظ لا بد له من صيغة، والأمر والنهي من الألفاظ،
وهذا بالإجماع.
كقول
من يقول: هل الصلوات خمس أم لا ؟
نقول:
هذا السؤال ليس بوارد أصلا، ولا يُسأل عن مثل هذا.
كذلك لا يقال: هل للأمر صيغة أم لا؟
لأن للأمر صيغة بالإجماع، وهي التي
إذا أطلقت يفهم منها الدلالة على الطلب.
لكنهم لا يسألون هذا السؤال
اعتباطًا، بل ليشوشوا على الناس وليلبسوا عليهم دينهم، لكى يصلوا في نهاية المطاف
إلى أن صيغة افعل لا تدل بنفسها على طلب الفعل، وكذلك صيغة لا تفعل لا تدل بنفسها
على طلب الترك، فليست نفس الصيغة عندهم هي الأمر أو النهي، وبذلك تكون الصيغة دالة
فقط على الأمر والنهي، وليست عين الصيغة هي الأمر والنهي، فهذه الصيغ التي هي
أوامر ونواهي يسمونها أمرا أو نهيا على سبيل المجاز فحسب، وحقيقتها عندهم عبارات
ودلائل تدل على الكلام النفسي، والأمر والنهي عندهم متعلق بالنفس المجردة عن الحرف والصوت، ليردوا الكلام إلى
الكلام النفسي !! ولذلك يقولون بخلق القرآن، حيث يزعمون أن كلام الله معنى قائم
بالنفس المجردة عن الألفاظ والحروف والأوامر والنواهي، !! فتنبه بارك الله فيك.
على خلاف بينهم هل الكلام النفسي شيء
واحد أم متعدد، قولان مشهوران:
ذهب بعضهم إلى أنه شيء واحد، فإن
تعلق بطلب إيجاد سمي أمرًا، وإن تعلق بطلب ترك سمي نهيًا.
ومنهم من قال:
بل يتنوع، فيكون أمرًا، ونهيًا، وعامًا، وخاصًا، إلى آخره، فالكلام النفسي عند
هؤلاء أنواع، وقد أشار إلى ذلك السيوطي في الكوكب، حيث قال:
لمثبـتي النفـسيِّ خلـف يجـري *** هـل
صيغـة يخصُّـه للأمـر
والشيخ عنه النفـي قيـل الوقـف *** وقيل
الاشتـراك ثم الخلـف
وخلاصة
الأمر: المعتزلة والجهمية أحسن حالا وأقل
ضلالا من الأشاعرة في هذا الباب من حيث تصريحهم بأن القرآن مخلوق.
والأشاعرة كذلك يقولون:
القرآن مخلوق، لكن يقولون: ننسبه إلى الله على سبيل المجاز، فيخدعون الناس
بقولهم القرآن كلام الله !! ثم بينهم وبين أنفسهم وفى كتبهم يقولون هو مخلوق.
لأن الكلام عندهم موجود في النفس،
وليس ما في المصحف هو كلام الله !!! ومرده في نهاية المطاف إلى العلم، وأن الله لم
يتكلم بالقرآن حقيقة، وإنما يضيفون الكلام إلى الله إضافة تشريف، مثل (ناقة
الله)، والكعبة (بيت الله)، وعيسى (روح الله)، فكذلك القرآن
عندهم، فضلوا جميعا وأضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل.
قال
العلامة محمد الأمين الشنقيطي في المذكرة (ص181):
وزعمت
فرقة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس، فخالفوا
الكتاب والسنة وأهل اللغة والصرف ... إلخ.
اعلم
أن كثيرا من المتكلمين يزعمون أن كلام الله معنى قائم بذاته مجرد عن الألفاظ والحروف،
والأمر عندهم هو: اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس المجرد عن الصيغة،
ولأجل هذا الاعتقاد الفاسد قسموا الأمر إلى قسمين: نفسي، ولفظي.
فالأمر
النفسي عندهم هو ما ذكرنا !!، والأمر اللفظي: هو اللفظ الدال عليه كصيغة افعل.
وأشار
إلى مرادهم هذا صاحب مراقي السعود بقوله في تعريف النفسي عندهم واللفظي:
هو اقْتِضَاءُ
فِعْلٍ غَيْرُ كَفِّ *** دُلَّ عَلَيْهِ لا بِنَحْوِ كُفَّ
هذا
الذي حُدَّ بِهِ النَّفْسِيُّ *** ومَا عَلَيْهِ دَلَّ قُلْ لَفْظِيُّ
إذا
علمت ذلك فاعلم أن هذا المذهب باطل، وأن الحق أن كلام الله هو هذا الذي نقرؤه
بألفاظه ومعانيه، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ.اهـ
إذا ما هي صيغ الأمر؟
1 – صيغة افعل، وهي ما كان بفعل
الأمر، نحو قوله تعالى " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا
مَعَ الرَّاكِعِينَ " البقرة (43).
2 – الفعل المضارع المقرون بلام
الأمر، وهي صيغة (ليفعل، أو لتفعل، أو لتفعلوا، أو لتفعلي)، نحو " فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ " النور (63).
3 – اسم فعل الأمر، نحو " يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ " المائدة
(105)، عليكم اسم فعل أمر يدل على الطلب.
4 – المصدر النائب عن فعله، نحو
" فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ " محمد
(4)، (ضرب) مصدر نائب عن فعله وهو (فاضربوا الرقاب).
إذن قول الناظم:
(بصيفة افعل) يشمل هذه الصيغ الأربعة.
واعلم رحمك الله أن صيغة الأمر لها
ثلاث حالات:
1 – أن يكون الأمر معه قرينة دالة
على الوجوب، نحو (افعل وإلا ضربتك)، هذا للوجوب بالإجماع.
2 – أن يكون الأمر معه قرينة تدل على
الندب، نحو (إن شئت فتوضأ)، فهذا للندب بالإجماع.
3 – أن يكون الأمر مجردا عن القرائن
كلها، وهذا وقع فيه النزاع فيه عند المتأخرين، أما عند السلف فهو للوجوب بالاتفاق.
نحو قوله تعالي " وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ " البقرة (34)،
فقوله تعالي (اسجدوا) أمر مطلق مجرد عن القرائن، وهو للوجوب عند السلف، وعند
جماهير المتأخرين ليس للوجوب، والأصل فيه الاستحباب، وهذا فاسد، بل هو للوجوب
بالكتاب والسنة والإجماع، وإجماع أهل اللغة.
فمن
الكتاب:
قوله
تعالي" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" النور
(63) ، فرتب الفتنة في الدنيا، والعذاب
الأليم في الآخرة على مخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن مرجع
الضمير للرب جل وعلا، وقيل لهما معا، والأول أصح.
وقوله (عَنْ أَمْرِهِ) (عن)
زائدة للتوكيد، لأن الفعل يخالفون يتعدى بنفسه، وقوله (أَمْرِهِ) مفعول به
للفعل يخالفون، ونصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف
الجر الزائد، أي: (يخالفون أمره)، وهذا أبلغ من قول (يخالفون أمره)،
وهذا قول الأخفش.
وذهب سيبويه والخليل إلى أن عن هنا
بمعنى (بَعْدَ)، أي: فليحذر الذين يخالفون بعد أمره، كقلوه تعالي " لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقًا عَن طَبَقٍ " الانشقاق (19)،
يعنى: طبقا بعد طبق.
وقوله تعالي " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ " الأحزاب (36)، وهذا واضح أنه للوجوب، لدليل ترتب
العقاب على الترك، قال بعدها " وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُّبِينًا ".
وقوله تعالي " أَلَّا تَتَّبِعَنِ
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي " طه (93)،
ولو كان مطلق الأمر للندب لما صح لموسى أن يعاتب هارون بقوله (أفعصيت أمري)
!!.
وقوله تعالي " لَّا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " التحريم
(6)، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عموم الامتثال لكل ما
امر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا دل الدليل على كون الأمر
للندب أو للإباحة.
ومن السنة:
ما
رواه الشيخان وغيرهم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى
النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ " دل ذلك على
أن مطلق الأمر للوجوب، ولم يأمر النبي لعدم المشقة علينا، إذ لو أمر لوجب !!.
وكذلك أمره للصحابة حيث قال لهم كما
عند البخاري وغيره (بَابُ الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ
الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ):
قال عليه الصلاة والسلام: قُومُوا
فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ
ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ
سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى
تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا
مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا
رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ
بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا... الحديث.
دل ذلك على كون أمره عليه الصلاة
والسلام للوجوب، إذ لو لم يكن للوجوب لما غضب عليه الصلاة والسلام، ولم يحتج عليه
صحابي واحد بقوله: أمرك للندب يا رسول الله !!.
بل ثبت عكس ذلك في أحاديث لا تحصي في
هذا المختصر تدل على كون الصحابة بالإجماع يرون أمر النبي صلى الله عليه وسلم
المجرد عن القرينة للوجوب.
فقد أجمعوا
مثلا على وجوب غسل الإناء إذا ولغ الكلب فيه، بلفظ فليغسله !!.
أما أهل اللغة
فلم ينقل عنهم خلاف ذلك، فلو أمر سيدٌ عبدَهُ وقال له: اسقنى ماءً، ثم لم يمتثل
العبد، فعاقبه سيده، لا يلام السيد على ذلك.
ولو أمر رجلٌ ابنَهُ
أن اسقنى ماءً يا بني، فلم يسقه، وقال له: يا أبتِ إن أمرك للندب وليس للوجوب !!
فعاقبه أبوه لم يكن ليلام بالاتفاق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق