ظرف المكان إن كان مُحَصَّلًا فمن الأفصح الإخبار به
من المقرر نحويا أن ظرف المكان إن كان مُحَصَّلًا فمن الأفصح الإخبار به، كما أنه لا يتعدى الفعل اللازم إليه بنفسه، بل لا بد حينئذ من جَرِّهِ بحرف من حروف الجر، حتى يجلب معنى الفعل إليه؛ إذ حقيقة حروف الجر -كما هو متقرر- أنها لا تجر الأسماء!!، بل تجر معاني الأفعال إلى الأسماء.
ولذلك فرق سيبويه في الكتاب بين ما ينتصب من الأماكن
والأزمنة، وبين غيرها، فالأول يتعين فيه النصب على المشهور، والآخر يتعين فيه
الرفع على الإخبار، أو النصب على أنه منصوب بنزع الخافض لا الظرفية.
مثلا لو قلت: زيدٌ داخلُ الدارِ، فالرفع على أنه نفس الخبر، لأن الدخول
مكان محصل، والنصب على أنه منصوب بنزع الخافض، لا أنه ظرف، وقيل: يُنصب على
الظرفية، والأول أظهر.
ولذلك كان الأفصح حينئذ أن تقول: زيد في داخلِ الدار، وإن
أردتَ الرفع فعلى ما تقدم من أنه نفس الخبر؛ لأنه حينئذ لا يحسن أن يكون ظرفا في
الاصطلاح؛ إذ هو موضعٌ محصلٌ.
قال أبو جعفر النحاس في "عمدة الكتاب" (ص266):
ولا يجوز زيدٌ جوفَ الدار، كما لا يجوز زيدٌ الدار، لأنه
موضعٌ محصلٌ، وكذا لا يجوز زيدٌ داخلَ الدار، ولا خارجَها، ولا براهَا.
فإن قلت زيدٌ داخلُ الدارِ مُسْتَحِمًّا في الباطية جاز؛
لأن داخلُ خبر الابتداء، وقولك: مستحمًّا حالٌ من المضمر الذي في داخل، وتقديره
مقدرٌ لهذا، وإن شئت قلت: مستحمٌ في الباطية، على أنه نعتٌ للداخل.
وقال سيبويه في الكتاب (1/ 411): "باب ما ينتصب من
الأماكن والوقت":
وإنما الأصلُ في الظروف الموضعُ والمستقَرُّ من الأرض .......
واعلم أنّه ليس كل موضع و" لا " كلُّ مكان يَحسُن أن يكون ظرفًا..
فممَّا لا يحسن أن يكون ظرفًا أنّ العربَ لا تقول هو
جَوفَ المسجد، ولا هو داخِلَ الدار، ولا هو خارِجَ الدار، حتى تقول: هو في جوفها،
وفى داخل الدار، ومن خارجها. وإنَّما فُرّق بين خلَف وما أِشبهها وبين هذه الحروف،
لأن خَلفَ وما أشبهها للأماكن التي تَلى الأسماءَ من أَقطارها، على هذا جرتْ
عندهم، والجَوْفُ والخارج عندهم بمنزلة الظهْرِ والبطن والرأٍس واليد، وصارتْ خلف
وما أشبهها تَدخل على كلّ اسم فتصير أمكنةً تَلى الاسمَ من نواحيه وأقطاره، ومن أعلاه
وأسفلِه، وتكونُ ظروفا كما وصفتُ لك، وتكون أسماءَ كقولك: هو ناحيةُ الدارِ إذا
أردتَ الناحيةَ بعينها، وهو في ناحيةِ الدار، فتصير بمنزلة قولك: هو في بيتك وفى
دارك.
وقال السيوطي في الهمع:
"إذا قلت (ظهرك خلفك)، جاز رفع الخلف
ونصبه، أما الرفع فلأن الخلف في المعنى الظهر، وأما النصب فعلى الظرف وكذا ما أشبه
ذلك.
قال الشاطبي في المقاصد الشافية:
وربما سقط الحرفُ الجارُّ فانتصب المختصُّ، كقولهم: ذهبت
الشامَ، ودخلت البيت، وكان الأصل: ذهبتُ في الشام، ودخلت في البيت، ..... إلى أن
قال: لكن الظاهر من نصبه عند الناظم ليس على الظرفية، بل على إسقاط الجارِّ؛ إذ لو
كان على الظرفية لم يقل: "وما يقبله المكانُ إلا مُبهمًا" لقبوله ذلك
سماعًا، وأيضًا فقد قال في حدّ الظرف: "ضمنا في بإطراد" فأخرج غير
المطرد. وهذا ليس بمطرد كما تقدم، فلا يكون ظرفًا. فالقابلية في قوله: "وما
يقبله المكان" مطلقةٌ في القياس والسماع معًا. وهنا يظهر أنّ نصب هذه الأشياء
عنده ليس على الظرفية كما قاله الشلوبين تأويلًا على سيبويه، وليس مذهب سيبويه.
ومع ذلك فهو مذهب مرجوح؛ فإنها كسائر الأسماء التي يتعدَّى إليها الفعل بحرج الجر
من غير أن يطَّرد إسقاطه كمررت زيدًا، فإنّ نصبه على إسقاط الجارّ لا على الظرفية
فكذلك هذا.
ومما يدل على أن نصب الظرف المحصل بنزع الخافض، أنه يجوز
إظهار الحرف وحذفه، والإظهار أولى، كما فعلوا في الفعل اللازم إذا تعدى بنفسه، إذا
الظرف المحصل واحد في الحالتين، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق