السبت، 15 أغسطس 2015

من أخلاق العلماء- للإمام الآجري


على كل طالب علم أن يحفظه ويعيه قلبه، وأن يضعه نصب عينيه، حتى لا يكون من علماء الضلالة.

قَالَ الإمام مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجري:
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَصِفْ لَنَا أَخْلَاقَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ عِلْمُهُمْ حُجَّهٌ عَلَيْهِمْ , حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ اعْتَبَرْنَا مَا ظَهَرَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ , فَإِذَا رَأَيْنَا أَخْلَاقًا لَا تَحْسُنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ اجْتَنَبْنَاهُمْ , وَعَلِمْنَا أَنَّ مَا اسْتَبْطَنُوهُ مِنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ أَقْبَحُ مِمَّا ظَهْرَ , وَعَلِمْنَا أَنَّهُ فِتْنَةٌ فَاجْتَنَبْنَاهُمْ , لِئَلَّا نُفْتَتَنَ كَمَا افْتُتِنُوا , وَاللَّهُ مُوَفِّقُنَا لِلرَّشَادِ.

قِيلَ لَهُ: نَعَمْ , سَنَذْكُرُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَا إِذَا سَمِعَهَا مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ , فَتَصَفَّحَ أَمْرَهُ , فَإِنْ كَانَ فِيهِ خُلُقٌ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَكْرُوَهَةِ الْمَذْمُومَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ , وَأَسْرَعَ الرَّجْعَةَ عَنْهَا إِلَى أَخْلَاقٍ هِيَ أَوْلَى بِالْعِلْمِ , مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَتَجَافَى عَنِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُبَاعِدُهُمْ عَنِ اللَّهِ.

فَمِنْ صِفَتِهِ فِي طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ: يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ.
وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنَ الْعِلْمِ مَا أَسْرَعَ إِلَيْهِ هَوَاهُ.

فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ؟
قُلْتُ: لَيْسَ مُرَادُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيمَا يَعْبُدُهُ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ , وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

إِنَّمَا مُرَادُهُ فِي طَلَبِهِ أَنْ يُكْثِرَ التَّعَرُّفَ أَنَّهُ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ , وَلِيَكُونَ عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ هَذَّبَ نَفْسَهُ , وَكُلُّ عِلْمٍ إِذَا سَمِعَهُ أَوْ حَفِظَهُ شَرُفَ بِهِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ , سَارَعَ إِلَيْهِ , وَخَفَّ فِي طَلَبِه.

وَكُلُّ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْلَمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ , ثَقُلَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ , فَتَرَكَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ , مَعَ شِدَّةِ فَقْرِهِ إِلَيْهِ.

يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفُوتَهُ سَمَاعٌ لِعِلْمٍ قَدْ أَرَادَهُ , حَتَّى يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي سَمَاعِهِ , فَإِذَا سَمِعَهُ هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ , فَلَمْ يُلْزِمْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ , كَمَا أَلْزَمَهَا السَّمَاعَ فَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ إِنْ فَاتَهُ سَمَاعُ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ , أَحْزَنَهُ ذَلِكَ , وَأَسِفَ عَلَى فَوْتِهِ , كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ مِنْهُ.

وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى عِلْمٍ قَدْ سَمِعَهُ , فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ , فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ , ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِ وَيَتَأَسَّفَ.

يَتَفَقَّهُ لِلرِّيَاءِ , وَيُحَاجُّ لِلْمِرَاءِ , مُنَاظَرَتُهُ فِي الْعِلْمِ تُكْسِبُهُ الْمَأْثَمَ , مُرَادُهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ أَنْ يُعْرَفَ بِالْبَلَاغَةِ , وَمُرَادُهُ أَنْ يُخَطِّئَ مُنَاظِرَهُ , إِنْ أَصَابَ مُنَاظِرُهُ الْحَقَّ أَسَاءَهُ ذَلِكَ.

فَهُوَ دَائِبٌ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ الشَّيْطَانَ , وَيَكْرَهُ مَا يُحِبُّ الرَّحْمَنُ , يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ لَا يُنْصِفُ فِي الْمُنَاظَرَةِ , وَهُوَ يَجُورُ فِي الْمُحَاجَّةِ , يَحْتَجُّ عَلَى خَطَئِهِ , وَهُوَ يَعْرِفُهُ , وَلَا يُقِرُّ بِهِ , خَوْفًا أَنْ يُذَمَّ عَلَى خَطَئِهِ , يُرَخِّصُ فِي الْفَتْوَى لِمَنْ أَحَبَّ , وَيُشَدِّدُ عَلَى مَنْ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ , يَذُمُّ بَعْضَ الرَّأْيِ , فَإِنِ احْتَاجَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا لِمَنْ أَحَبَّ دَلَّهُ عَلَيْهِ , وَعَمِلَ بِهِ , مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا , فَهِمَّتُهُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا , فَإِنْ عَادَ عَلَيْهِ خَفَّ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ لِلدُّنْيَا وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ الْآخِرَةُ ثَقُلَ عَلَيْهِ.

يَرْجُو ثَوَابَ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ , وَلَا يَخَافُ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُسَاءَلَةِ عَنْ تَخَلُّفِ الْعَمَلِ بِهِ , يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ عَلَى بُغْضِهِ مَنْ ظَنِّ بِهِ السُّوءَ مِنَ الْمَسْتُورِينَ , وَلَا يَخَافُ مَقْتَ اللَّهِ عَلَى مُدَاهَنَتِهِ لِلْمَهْتُوكِينَ.

يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ , فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا , وَلَا يَخَافُ عَظِيمَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ اسْتِعْمَالَهَا , إِنْ عَلِمَ ازْدَادَ مُبَاهَاةً وَتَصَنُّعًا , وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمٍ تَرَكَهُ أَنَفًا.

إِنْ كَثُرَ الْعُلَمَاءُ فِي عَصْرِهِ فَذُكِرُوا بِالْعِلْمِ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُمْ.

إِنْ سُئِلَ الْعُلَمَاءُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُسْأَلْ هُوَ , أَحَبَّ أَنْ يُسْأَلَ كَمَا سُئِلَ غَيْرُهُ , وَكَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ إِذْ لَمْ يُسْأَلْ , وَإِذْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ كَفَاهُ.

إِنْ بَلَغَهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَخْطَأَ , وَأَصَابَ هُوَ , فَرِحَ بِخَطَأِ غَيْرِهِ , وَكَانَ حُكْمُهُ أَنْ يَسُوءَهُ ذَلِكَ.

إِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ سَرَّهُ مَوْتُهُ , لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ , إِنْ سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنِفَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ , حَتَّى يَتَكَلَّفَ مَالَا يَسَعُهُ فِي الْجَوَابِ , إِنْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ كَرِهَ حَيَاتَهُ , وَلَمْ يُرْشِدِ النَّاسَ  إِلَيْهِ , إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَتُوبِعَ عَلَيْهِ , وَصَارَتْ لَهُ بِهِ رُتْبَةٌ عِنْدَ مَنْ جَهِلَهُ , ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَنِفَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ خَطَئِهِ , فَيَثْبُتُ بِنَصْرِ الْخَطَأِ , لِئَلَّا تَسْقُطَ رُتْبَتُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ.

يَتَوَاضَعُ بِعِلْمِهِ لِلْمُلُوكِ , وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا , لِيَنَالَ حَظَّهُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ يُقِيمُهُ , وَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ لَا دُنْيَا لَهُ مِنَ الْمَسْتُورِينَ وَالْفُقَرَاءِ , فَيَحْرِمُهُمْ عِلْمَهُ بِتَأْوِيلٍ يُقِيمُهُ.

يَعُدُّ نَفْسَهُ فِي الْعُلَمَاءِ , وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ السُّفَهَاءِ، قَدْ فَتَنَهُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالثَّنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا , يَتَجَمَّلُ بِالْعِلْمِ كَمَا تَتَجَمَّلُ بِالْحُلَّةِ الْحَسْنَاءُ لِلدُّنْيَا , وَلَا يُجَمِّلُ عِلْمَهُ بِالْعَمَلِ بِهِ.

أخلاق العلماء (ص95)