الأربعاء، 27 يناير 2021

هل المباح من الحكم التكليفي؟

 



هل المباح من الحكم التكليفي (1)؟

====================

ثَمَّ خلاف بين أهل الأصول في المباح أهو حكم تكليفي أم لا؟

فذهب أبو إسحاق الْإسْفَرائِينِيُّ والكعبي، وأبو بكر الدقاق، وأبو فرج المالكي إلى أن المباح حُكْمٌ تكليفيٌّ، ثم اختلفوا فيما بينهم هل هو قسم بنفسه؟، أو هو من الطلَبَ؟



فذهب الْإسْفَرائِينِيُّ إلى أن المباح نوعٌ بنفسه، فليس بطلب لكنه تكليف؛ لأنه لا بد من اعتقاد إباحته، وهذا الاعتقاد يجعله تكليفا، أو بمعرفة حكمه، مثلا كأكل العسل، فهذا تكليف من حيث لزوم الاعتقاد، ولا نعرف ذلك إلا بمعرفة حكمه أولا، فالنظر حينئذ يكون إلى متعلق فعل المكلف لا إلى طلب الفعل من المكلف.



وذهب الباقون إلى أنه طَلَبٌ، وهو مأمور به، لكنَّ الأمر به دون الأمر بالندب، كما أن الأمر بالندب دون الأمر بالإيجاب؛ وعلل الكعبي المعتزلي قوله: بأنه يجب فعل المباح حتى يُترك الحرام، ولا يتم ترك الحرام إلا بفعل المباح!!.



بينما ذهب جماهير أهل العلم إلى أن المباح ليس بتكليف، ثم اختلف أصحاب هذا القول في تعليل: لماذا دخل المباح في الحكم التكليفي؟



فقال بعضهم: أدخله كثير من الأصوليين في الحكم التكليفي لاستكمال القسمة، وهو الذي اختاره العلامة الأمين.



وقال بعضهم: بل أُدخل من باب التساهل.



وقال آخرون: دخل في الحكم التكليفي؛ لأنه يتعلق بفعل المكلف لا من جهة كونه مطلوبا؛ ولذلك لو فعل الطفل ما يُباح فلا يُسمى مباحا؛ لأنه ليس بمكلف، وكذلك خرج فعل البهيمة والمجنون لرفع التكليف عنهما.



وقيل: دخل في الحكم التكليفي من باب التغليب، وهذا كثير جدا في لسان العرب وفي الشرع.



وقيل: الخلاف لفظي؛ لأن مَنْ نفى التكليف يقول: التكليف طلب ما فيه كلفة، والمباح لا طلب فيه، ومَن أثبته قال: مكلف من حيث اعتقادُ كونِه مباحا.



وكذلك قيل: «في المباح أهو مأمور به؟» إنَّ الخلاف لفظي، فقول الكعبي ومن تبعه يتخرج على ما إذا كان المباح وسيلة لحكم من الأحكام الأربعة، ونظر الجمهور يتخرج على النظر إلى المباح من حيث هو.



========================

قلتُ: الحق أنَّ جِنْسَ المُبَاحِ وَاجِبٌ أو مندوب، وليس بتكليف إذا ما نُظِرَ إلى أفراده، وليس مأمورا به.



فجنسه واجب؛ لأنه يجب على العبد الإتيان بجنس المباح، فيجب عليه أن يأكل، ويشرب، وينام، ويمشي، إلخ..، وإلا لكان آثما، وكأنَّ الشاطبي مال إلى ذلك في الموافقات، وربما كان مندوبا فيما يمكنه الاستغناء عنه.



ويشهد لذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه (ح 4800) من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ «فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».



وليس تكليفا باعتبار أفراده؛ لأن المباح ليس فيه طلب فعل أو طلب ترك، إلا إذا كان وسيلة لغيره وهذا خارج محل البحث.



أما قول الْإسْفَرائِينِيِّ ومن قال بقوله فيجاب عليه: بأنه لا يُنازع أَحَدٌ في أنه يجب اعتقاد إباحته، وكذلك كل الأحكام، فهذا خارج محل البحث؛ لأن النظر يكون إلى نفس المباح، لا لاعتقاد إباحته؛ فالعلم بحكم الشيء خارج عن الشيء.



وأما قول الكعبي المعتزلي بأنه مأمور به فمبني عنده على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده، وسوف يأتي بيان بطلان هذا القول في باب الأمر، ثم يُجاب عليه: بأنه ليس مأمورا به؛ لأن الأمر طَلَبٌ، والمباح لا طلب فيه، والطلب يترجح فيه الفعل، بخلاف المباح فلا تَرْجِيحَ فِي فعله.



فإن قالوا: يجب أن يَفْعَلَ المباح حتى يَترك الحرام، ولا يتم ترك الحرام إلا بفعل المباح.



قلتُ: حاصل هذا القول أنه لا يوجد مباح لذاته، ويلزم منه أن يكون المباح واجبا، وحراما، ومكروها، لأن كلا منها يصدق عليه قولكم: يجب أن يفعله حتى يترك الحرام، لأن المندوب قد يُشْغِلُ عن الحرام، وهذا مما لا نزاع فيه، ويلزم منه أن يكون الحرام واجبًا إذا انشغل به عن حرام غيره !!، ويلزم منه أن يكون الواجب حرامًا إذا انشغل به عن واجب آخر، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.



وأصل هذا الخلاف راجع إلى حقيقة الأمر، وسيأتيك بيانه في باب الأمر، وهو باختصار: -أعني الأمر - حقيقة في القدر المشترك بين الإيجاب والندب.



ثم إنه يستلزم من ذلك إنكار وجود المباح؛ لأنه لو كان وسيلة لحكم شرعي آخر لدل ذلك على أنه ليس موجودا في الشريعة!



قَالَ ابْنُ الْعِرَاقِيِّ:

وَمِنْ الْعَجَبِ مَا حُكِيَ عَنْ الْكَعْبِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ بُرْهَانٍ وَالآمِدِيِّ مِنْ إنْكَارِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُ لا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَهُوَ خِلافُ الإِجْمَاعِ.



وأحسن تعليل في إدخاله تحت الحكم التكليفي؛ أنه يتعلق بفعل المكلف لا من جهة كونه مطلوبا؛ حتى نَحْتَرِزَ به عن فِعْلِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ لرفع التكليف عنهما، ثم يليه القول بالتغليب.



والمباح حكم شرعي مع أنه ليس حكما تكليفيا؛ إذ كل حكم تكليفي حكم شرعي، وليس كلُّ حكمٍ شرعي يكون تكليفيا.

-----------------------------

(1) انظر الكلام على التكليف وبيان معناه (1/ ص71).

من كتاب (الشرح الكبير على نظم الورقات في علم أصول الفقه) للعبد الفقير.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق