الأربعاء، 29 مارس 2017

شرح قول ابن مالك (كلامنا) والرد على النحاة المتأخرين ومقلديهم في تعريف الكلام وبيان بطلان أنه يشمل القرائن المفهمة


شرح قول ابن مالك (كلامنا) والرد على النحاة المتأخرين ومقلديهم في تعريف الكلام.

قال ابن مالك:
كَلَامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاسْتَقِمْ *** وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الكَلِمْ

الكلامُ في اللغة : نُطْقٌ مُفْهِمٌ، كذا قال ابنُ فارسٍ في مقاييس اللغة، فالكلام لا يكون كلاما إلا بنطق، سواء أكان في اللغة أم في اصطلاح النحاة، وهو اسمُ مصدرٍ مِن «كَلَّمَ يُكَلِّمُ تَكْلِيمًا وَكَلَامًا»، وهو اسْمُ جِنْسٍ؛ لأنه يَقَعُ عَلَى القَلِيلِ والكَثِيرِ كما قال الجَوْهَرِيُّ.

لكنَّ أكثر النحاة المتأخرين يقولون غير هذا، فيقولون في تعريف الكلام لغة: القول وما كان مكتفيا بنفسه، كما نص عليه في القاموسِ المحيط.

وقال الزَّبِيدِيُّ في تاج العروس:
الكَلامُ لُغَةً يُطْلَقُ على الدَّوَالِّ الأربَعِ، وعلى ما يُفْهَمُ من حَالِ الشَّيء مَجَازًا، وعلى التَّكَلُّم، وعلى التَّكْلِيمِ كَذلِك، وعلى مَا في النَّفْسِ من المَعَانِي التي يُعَبَّرُ بِهَا، وعلى اللَّفْظِ المُرَكَّبِ أَفَادَ أَمْ لا.


وكذا قال المُراديُّ في شرحه على الألفية، بل لا أعرف أحدا من شارحي الألفيةِ قال خلافَه.


وعلى هذا التعريف يكون كلُّ ما أفاد فائدةً في اللغة يُسمى كلاما، وهي سبعةُ أشياء: «الخطُّ، والإشارةُ، والكتابةُ، والعلامات أو النصب، ولسانُ الحالِ، وحديثُ النفسِ، والكلامُ النفسيُّ».

لكنه تعريف باطل باطل  !!  ويا للأسف هو ما ينص عليه كثير من النحاة المتأخرين وبعض المقلدين !! وأنا أدعى أنه لم يقل به أحدٌ من أئمةِ العربيةِ المتقدمين، كالخليلِ وسيبويهِ وغيرِهما، بل قالوا خلافه.
وهذا ردي عليهم تفصيلا لا سيما ابن هشام.
==========================================
أولا: قال ابن هشام في شرحِ شُذُورِ الذَّهبِ (ص51):
" وأَما معناه في اللغة فإِنه يُطلق على ثلاثة أمور:
أحدها: الَحْدَثُ الذي هو التَّكْلِيمُ، تقول: أَعْجَبَني كَلاَمُكَ زَيْدًا، أي: تَكْليِمُكَ إيَّاهُ.

قلتُ: وهذا لا إشكالَ فيه إذا لم يُردْ بالحَدَثِ معنى فاسدٌ.

والثاني: ما في النفس مما يُعَبَّرُ عنه باللفظِ المفيدِ وذلك كأنْ يقومَ بنفسكَ معنى: قَامَ زيدٌ، أو قَعدَ عمروٌ، ونحو ذلك، فيسمى ذلك الذي تَخَيَّلْتَهُ كلامًا.


قال الأخطل:
لاَ يُعْجِبِنَّكَ مِنْ خَطِيبٍ خُطْبَةٌ *** حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلاَمِ أصِيلَا
إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤادِ وَإِنَّما *** جُعِلَ اللَّسَانُ عَلَى الْفؤادِ دَلِيلَا


قلتُ:
وهذا باطل، وكلام ابن هشام يُفهم بطريقتين:
إِحداهما: أن يقولَه نحويٌّ أو لُغويٌّ كابن هشام، مريدا به أن الكلامَ يُطلقُ على ما في النفس بقرينة دون تحريف صفة الكلام في حق الرب جل وعلا، ودونَ القولِ بأَنَّ كلامَ الله هو المعنى القائمُ بالنفس، حينئذ يكون الخلافُ معه لغويا لا عقديا، ولا أحسب أنَّ ابنَ هشامٍ أرادَ غيرَ ذلك، وهو قول فاسد أيضا كما سيأتي.


ثانِيهُمَا: أن يُريدَ بذلك تحريفَ صفةِ الكلامِ في حقِ الربِّ جل وعلا، وأنَّ اللهَ لم يتكلمْ كلامًا بحرف وصوت، وإنما كلامُه هو المعنى القائمُ بالنفس، فهذا قول الأشاعرة، وهو في الأصل قولُ الجهميةِ والمعتزلةِ القائلين بخلق القرءان، وقد اتفقوا جميعا على القول بخلق القرءان، ومعلوم عند السني أنه من أبطل الباطل، بل القول بخلق القرءان كفرٌ أكبرُ بإجماع السلف.


وعلى القولين لا يُطلق الكلامُ في اللغةِ على الكلامِ النفسي، بل هو من بدعِ المتكلمينَ والأشاعرةِ ومن لَفَّ لَفَّهُمْ، وقد نقله بعضُ علماءِ اللغة دون تحقيق له، ودون معرفةِ ما وراءه من تعطيلٍ لصفة الرب جل وعلا، وصرح به آخرون متعمدين نصرةً لعقيدَتِهِمُ الفاسدة؛ إذ يزعمون أَنَّ كلامَ اللهِ معنًى قائمٌ بالنفسِ المُجَرَّدَةِ عن الألفاظِ والحروفِ والأوامرِ والنواهي.


فالقول بالكلام النفسي باطلٌ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، وإجماع أئمة العربية.
فمن القرءان:
قولُه -تعالى- " وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ " التوبة (6).
فمن زعم أنَّ ما يُسمع ليس بكلام الله فهو جهميٌّ كافرٌ بإجماعِ السلف.


وقولُ مريم " إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا " مريم (26)، ثم قال جل وعلا بعدها: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ"، ولو كانت الإشارةُ معبرةً عما في النفس لوجب أن يكون لها حكمُ الكلامِ على مذهبِهُم الفاسد؛ إذ لو كان ما في النفس كلاما لكانت الإشارةُ تدل عليه، كما أن كلامَ اللهِ نفسيٌّ عندهم، وصيغتا الأمرِ والنهي دالةٌ عليه !!، فبطلان هذا أوضح من الواضح، فلم يكن مِنِ امتناعِ مريمَ عن الكلامِ فائدةٌ.


ومثلُه قولُ اللهِ جل وعلا على لسان زكريا عليه السلام " قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا " مريم (10)، دل ذلك على عدم جواز الكلام في حقه، ثم قال: " فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا "، فقد أوحي إليهم، ولم يكن هذا الذي عبر عنه بالإشارة كلامًا.


أما إذا أُريد به ما في النفس فلا بد من التقييد، ويُسمى حديثَ نفسٍ لا كلامًا نفسيًا، كما في قوله تعالي " وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ " المجادلة (8)، وهذا أكبرُ ردٍّ عليهم؛ لأنه لو كان الأصلُ في إطلاقه ما في النفس فما الداعي إلى التقييد؟ !!.


أما من السنةِ فأحاديثُ لا تُحصى في هذا المقام:
منها قولُه -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاريُّ وغيرُه" أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ".


وبالإجماع من لم يقل: لا إله إلا الله ولم يتلفظْ بها، وهو قادرٌ على النطق فلم يَقُلْهَا، ولا يُسمى قائلا، وليس بمؤمن، ولو قالها في نفسه دون أن يتكلم بها فلا يُسمى قولا بالإجماع.


وقولُه -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاريُّ وغيرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ"، فجعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الكلامَ لا يكونُ إلا لفظا، أما في النفس فلا يُسمى كلاما؛ إذ لو كان كلاما لكان معنى الحديث " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا تَكَلَّمَتْ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ "، وهل يقول بذلك عاقل؟.


وكذا انعقدَ الإجماعُ على أن الكلامَ لا يكون كلاما إلا إذا كان بألفاظٍ وحروفٍ تدل على المعاني، والكلام نطق، باتفاق أئمة العربية، ولم يَنْقُلْ سيبويهِ خلافَه عن العرب.


قال الشيخُ الأمينُ في المذكرة (ص182):
وأجمع الفقهاءُ على أنَّ مَن حلف ألا يتكلمَ لا يحنثُ بحديث النفس، وإنما يحنثُ بالكلام. اهـ


قلتُ:
وأجمع العقلاءُ على أنَّ الساكتَ والأخرسَ لا يُسمى كلٌّ منهما متكلمًا، مع كون كلٍّ منهما يحدثُ نفسَه!!.


============================
ثم قال ابن هشام:
والدليلُ عليه فيما نَطَقَ به لسانُ الحالِ قولُ نُصَيْبِ
فَعَاجُوا فَأَثْنَوْا بِالّذِي أَنتَ أَهْلُهُ *** وَلَوْ سَكَتوا أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ


قلتُ: معناه (أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ) بالإشارة وليس يُسمى كلاما، فليس فيه حجة، ثم لو قلنا بثبوته لكان مجازًا !! لوجود القرينة إن قلنا بالمجاز، ونحن نريد أنَّ أصلَ الكلامِ لا يكون كلاما إلا بنطق.


قال سيبويه رحمه الله (1/ 122):
" واعلم أَنَّ " قُلْتُ " إنما وقعتَ في كلام العرب على أن يُحْكى بها، وإنما تَحْكِى بعدَ القول ما كان كلامًا لا قولًا، نحو قلتُ: زيدٌ منطلقٌ، لأنه يَحْسُنُ أن تقول: زيدٌ منطلقٌ، ولا تُدخلُ " قلتُ ". وما لم يكن هكذا أسقط القول عنه ".


قلتُ:
فهذا سيبويه ينص على أن كلام العرب يقع بعد قول، والقول لا يقع بعده إلا كلام تام، وهذا كتاب نحو، ولم يفرق إمام النحاة بين الكلام في اللغة والكلام عند النحاة.


وقال ابن مالك في شرح التسهيل:
عنى بالكلام الجُمَلَ، وبالقولِ المفردات، ولا يريد أن القولَ مخصوصٌ بالمفردات، فإن إطلاقَه على الجمل سائغٌ بالاتفاق.


============================
ثم قال: وقال الله تعالى (قَالَتَا أَتيْنَا طَائِعِينَ) فزعم قومٌ من العلماء أنهما تكلّمَتَا حقيقةً، وقال آخَرُون إِنهما لما انْقَادَتَا لأَمر الله عز وجل نُزِّلَ ذلك مُنَزَّلَةَ القولِ.


قلتُ: وهذا قول غريب من ابن هشام، وتصديرُه القولَ الآخرَ بالزعمِ مشعرا بضعفه عنده.


والذين يقولون: لم تتكلم السماءُ والأرضُ حقيقةً إنما يتصورون أن الكلام لا يكون إلا بجوفٍ وشفةٍ ولسانٍ!! وهذا تصور فاسدٌ، بل من أبطل الباطل.


فاعلم بارك الله فيك- أنه يجبُ التسليمُ بما ورد من أنهما تكلمتا حقيقة، ولا يجوز تحريفُه أو تعطيلُه.
ومثلُه قوله تعالى: «وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء».


قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 154):
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ. فَنَقُولُ: أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}؟ أَتُرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ؟ وَقَالَ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} أَتُرَاهَا أَنَّهَا يُسَبِّحْنَ بِجَوْفِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ، وَكَذَلِكَ اللَّهُ تَكَلَّمَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ.


وقال في كتاب الإيمان (2/ 169):
" قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَاَلَّذِي يُقَيِّدُ بِالنَّفْسِ لَفْظُ الْحَدِيثِ يُقَالُ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَلَامُ النَّفْسِ وَقَوْلُ النَّفْسِ؛ كَمَا قَالُوا: حَدِيثُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَحْلَامِ الَّتِي تُرَى فِي الْمَنَامِ كَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} . وَقَوْلِ يُوسُفَ: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وَتِلْكَ فِي النَّفْسِ لَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ؛ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ قَدْ يُقَيَّدُ بِمَا فِي النَّفْسِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا فِي النَّفْسِ فَقَطْ.


وقال أيضا رحمه الله:
وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُحْكَى عَنْ الْأَخْطَلِ أَنَّهُ قَالَ:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا *** جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ شِعْرِهِ.
وَقَالُوا: إنَّهُمْ فَتَّشُوا دَوَاوِينَهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظُهُ: إنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ.


وَلَوْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ بِحَدِيثِ أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ.


وَهَذَا الْبَيْتُ لَمْ يُثْبِتْ نَقْلَهُ عَنْ قَائِلِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ لَا وَاحِدٌ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ اللُّغَةِ، فَضْلًا عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ.


ثُمَّ يُقَالُ: مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوْلِ شَاعِرٍ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِمْ، كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ.


وقال: فَالنَّاطِقُونَ بِاللُّغَةِ يُحْتَجُّ بِاسْتِعْمَالِهِمْ لِلْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا، لَا بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْحُدُودِ؛ فَإِنَّ أَهْلِ اللُّغَةِ النَّاطِقِينَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الرَّأْسَ كَذَا، وَالْيَدَ كَذَا، وَالْكَلَامَ كَذَا، وَاللَّوْنَ كَذَا، بَلْ يَنْطِقُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى مَعَانِيهَا، فَتَعْرِفُ لُغَتَهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ.


فَعُلِمَ أَنَّ الْأَخْطَلَ لَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَذْكُرَ مُسَمَّى "الْكَلَامِ"، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الشُّعَرَاءِ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ - إنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ- مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ لِلشِّعْرِ، أَيْ: أَصْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْفُؤَادِ، وَهُوَ الْمَعْنَى؛ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَلَا تَثِقْ بِهِ؛ وَهَذَا كَالْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
لَا يُعْجِبَنَّكَ مِنْ أَثِيرٍ لَفْظُهُ ... حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا


نَهَاهُ أَنْ يُعْجَبَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ، حَتَّى يُعْلَمَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلَامِ أَصِيلَا.


وَقَوْلُهُ: " مَعَ الْكَلَامِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الظَّاهِرَ قَدْ سَمَّاهُ كَلَامًا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قِيَامُ مَعْنَاهُ بِقَلْبِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَقَدْ اشْتَمَلَ شِعْرُهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا؛ بَلْ قَوْلُهُ: " مَعَ الْكَلَامِ " مُطْلَقٌ. وَقَوْلُهُ: "إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ" أَرَادَ بِهِ أَصْلَهُ وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَاللِّسَانُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.


وبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْعِلْمِ.


ثُمَّ هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّعَرَاءِ الْقُدَمَاءِ، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ كَافِرٌ مُثَلِّثٌ، وَاسْمُهُ الْأَخْطَلُ، وَالْخَطَلُ فَسَادٌ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَالنَّصَارَى قَدْ أَخْطَئُوا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ هُوَ نَفْسَ كَلِمَةِ اللَّهِ».


وقال ابن القيم في "الصواعق:
وقال الشاعر:
إنَّ البيانَ مِنَ الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا *** جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
هكذا قال الشاعرُ هذا البيت، وهكذا هو في ديوانه.
قال أبو البيان: أنا رأيتُه في ديوانه كذلك، فحرفه عليه بعض النفاة، وقالوا:
إنَّ الكلامَ لفي الفؤاد.


============================
ثم قال ابن هشام:
والثالثُ: ما تَحصُلُ به الفائدةُ سواءٌ كان لفظًا أَو خطًّا أَو إشارةً أَو ما نَطَقَ به لسانُ الحالِ.
والدليلُ على ذلك في الخط قولُ العرب: الْقَلمُ أحَدُ اللِّسَانَيْنِ.


قلتُ:
معناه أن القلمَ يقوم مقامَ الكلامِ في إيصال المراد، وليس المرادُ أنَّ مَنْ كَتَبَ يُسمى متكلما.


============================
ثم قال: وتسميتُهم مَا بين دَفَّتَي المصحفِ كلامَ الله.


قلتُ: ليس في هذا حجة؛ لأن اللهَ - جل وعلا- تكلم بالقرءان حقيقة.


وإلا فلو كتب رجلٌ: أشهد ألا إله إلا الله، ولم ينطق بها لا يُسمى متكلما !!.


ثم قال: والدليلُ عليه في الإِشارة قولُه تعالى (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الاَّ رَمْزًا) فاستثنى الرمزَ من الكلام، والأصْلُ في الاستثناء الاتِّصَالُ.


قلتُ: بل الآيةُ حجةٌ على ما يُقررهُ ابنُ هشام رحمه الله لأنه قال: (إلا رمزا) وهذا استثناء منقطعٌ لا متصل، أي: لكن: رمزا.


ولذلك قال الشاعر:
أَشارَتْ بِطَرْفِ الْعَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهِا *** إشارَةَ مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ


ففرق الشاعر بين الإشارة والكلام، وقد حاول ابنُ هشامٍ وغيرُه أن يجعلوا البيتَ شاهدا لهم، بأنه نفيٌ للكلامِ اللفظي، وإِثباتٌ للكلامِ اللغوي، وهذا غلط ظاهر أوضح من أن يُرد عليه.


قال ابن مالك في شرح التسهيل:
وبيَّنَ عنترةُ أن هذا الحالَ المُعَبَّرَ عنه بالقول ليس كلاما بقوله:
لو كانَ يَدري ما المحاورةُ اشتكَى *** ولكانَ لو عَلِمَ الكلامَ مُكلِّمِي
ورُوي: المخاطبةُ لا المحاورةُ
فهذا الشاعر الجاهلي ينص على أن الكلام لا يكون كلاما إلا بلفظ.
============================
إذن: الكتابةُ والإشارةُ وعقدُ الأصابعِ ولسانُ الحال والنصبُ كلُّها تُفِيدُ إِفَادَةَ الكلامِ وليست بكلام، لا في اللغة ولا عند النحاة المتقدمين، فالكلامُ لا يكون كلاما إلا بنطقٍ، فإن وردَ في بعضِ المواضعِ تسميةُ شيءٍ منها كلامًا فَلَنَا فيه مسلكان:


إما أن نقول: هو كلام على سبيل المجاز؛ لأن الكلام حقيقة لا يكون كلاما إلا بنطق، وهذا إن أثبتنا المجازَ.
وإما أن نقول: هو مردود عليه.


فالْكَـلَام لغة: اللفظ المشتمل على بعض الحروف الهجائية، سواء أفاد أم لم يُفد، ويأتي غالبا للمفيد.


أو هو: نطقٌ مُفْهِمٌ، وبهذا المعنى لا فرق بينه وبين الكلام عند النحاة إلا في قيدين، هما: (التركيب، والوضعِ)، فلو قال رجل: زيدٌ فقط فهذا يسمى كلاما في اللغة، ولو قاله بغير الوضع العربي يسمى كلاما أيضا.


والكُلامُ - بالضمِّ- الأرضُ الصَّعبةُ.


والكِلامُ -بكسرِ الكافِ-: الجِراحاتُ، يُقالُ: فلانٌ به كِلامٌ، أي: جراحاتٌ، وكِلمٌ أي: جرح.


أما الكلام عند النحاة فهو كما قال ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم


فهل الإضافة في قوله: (كلامنا) تفيد تخصيصَ الكلامِ بالكلامِ عند النحاة، أي: كلام النحاة لفظ مفيد، أو يجوز أن يريد بقوله: «كلامنُا»: أي: كلامُ العرب؟


جميعُ شَارِحِي الألفية على الأول، وقد وجدتُ له كلاما في شرح التسهيل قد يُفهم منه عدمُ التفرقة بين الكلام لغة واصطلاحا، لكنَّ جميعَ شارحي الألفية على الأول.

وكتب أبو زياد محمد سعيد البحيري
ضمن الدرس الثاني من شرحي على الألفية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق